التضليل الإعلامي في زمن الملتميديا

ساد انطباع شائع مع بدء التطور المذهل في تكنولوجيا الإعلام، أن أدوات هذه التكنولوجيا ستقضي على خلل التحيز والاحتكار للمعلومة، وسيكون من الصعوبة بمكان إخفاء المعلومة في عصر الصورة وتمرير الأكاذيب، وستشيع الحقيقة بأنصع من بياض الثلج، لكن هذه الأمنية لم تتحقق، بل قادت إلى تدفق كثيف للمعلومات عبر وسائل الإعلام – خاصة الحديثة – بشكل بات يصعب معه على المتابع العادي فحص الحقيقي منها من المزيف، ليبدأ عصر أكثر حبكة من التضليل الإعلامي تدعمه التكنولوجيا الحديثة المذهلة.

وفي الواقع لا يعني التضليل الإعلامي نقل المعلومات المزيفة، بل هو أمر أكثر ذكاء من ذلك، فيشير الدكتور عبدالرزاق الدليمي إلى أن مفهوم التضليل الإعلامي: يعني تزويد وسائل الإعلام بمعلومات كاذبة لا تخلو من مزج واضح بين الواقع وتفسيرها بشكل مقصود تختلط بالأكاذيب كي لا يفاجأ المتلقي عند تلقي التكذيب فلا يعود بإمكانه معرفة الحقيقة من التضليل.


لذا بات عرض جزء من الحقيقة ومزجها بوقائع موجّهة إحدى الحيل التي يتم اللجوء إليها لتزييف الوعي والتلاعب بالعقول، أو البناء على حقائق بإعادة تكييفها بطريقة تخدم هدف المرسل وتحقق الغرض من التضليل، وفي نهاية الأمر تعددت الوسائل كثيراً والتضليل واحد.
في بداية سبعينات القرن الماضي نشر هربرت شيللر كتابه الأثير (المتلاعبون بالعقول) ليضل هذا المصنف من أكثر المصنفات إظهاراً لما يجري من عملية التحكم بالإعلام والسيطرة عليه وتوجيه الناس حسب أهداف محددة وذكية تخدم الحاكم أو المرسل أيا كانت هويته، فلم تكن محاولات السيطرة على العقول أمراً طارئ الحدوث اليوم، بل منذ القدم، وباتت تأخذ أشكالا أكثر تطوراً وحداثة.


ولم يعد من المستغرب اليوم في ظل عصر الملتميديا وثورة الإبهار البصري أن يصبح التضليل الإعلامي أمراً مؤسسياً تلجأ له الدول والمؤسسات والأفراد باعتباره وسيلة للسيطرة والتجارة والتربح، وبتنا نسمع خلسةً أو علناً عن الذباب الإلكتروني و(جيش الـ50 سنت) وأصبح المواطن المغلوب على أمره أعزلاً في مواجهة هذه الجيوش الجرارة التي تعمل ليلاً ونهاراً لتحقيق مصالح باعثيها على حساب الحقيقية والوصول إلى المعلومة الصحيحة وحرية التعبير بشكل عام.

التضليل الإعلامي يعني تزويد وسائل الإعلام بمعلومات كاذبة لا تخلو من مزج واضح بالواقع


وقد رأينا على مدى العقود الماضية صوراً راسخةً وأمثلةً على طرق متعددةً للتضليل الإعلامي كما في الحرب العالمية الثانية وحرب الخليج الأولى، وتعاطي الإعلام الدولي والوطني مع ما سمي بثورات الربيع العربي، وفي توظيف أحداث 11 سبتمبر لخلق رموز مسلمة معادية يكرهها الغرب، ولم يعد التضليل الإعلامي يجد طريقه فقط عبر منصات وسائل الإعلام الجديد وحسب، بل انزلقت إلى هذا المنزلق صحف ووسائل إعلام في دول كثيرة وبعضها له سمعة عريقة في الإعلام، وفيما بعضها قد يتراجع ويحذف موضوع التضليل يصر البعض منها على إبقائه رغم علمها به لمصالح سياسية.


ولذا شهد العالم تسارعاً في وضع التشريعات المقيدة للتضليل الإعلامي بما لا يخل بمبادئ حرية التعبير والتزام المجتمعات الديمقراطية بها، وسارت الجهود حثيثةً جنباً إلى جنب مع التطور المتسارع أيضاً لوسائل التضليل الإعلامي والمبتكرة كل ساعة وحين.
ولعل المثال الأبرز عالمياً كان في تقييد وصول الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب إلى حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، مما خلق جدلاً حاداً بين مؤيد ومعارض لهذه الخطوة غير المسبوقة.


وعموماً، استندت عملية التقييد لحسابات ترامب إلى معايير تقييد الحقوق الثلاث، وهي ‘’الشرعية والضرورة والتناسب’’ فلابد أن تكون العملية شرعية ومستندة إلى قواعد محددة تسمح بذلك، وفقاً لمبدأ الضرورة الذي يرى في عدم التقييد ضرراً أكبر على المجتمع من السماح، وأن يكون التقييد متناسباً أيضاً مع حجم الفعل، خاصةً عند توفر شروط خطاب الكراهية والتمييز والتحريض وغيره.


وفي ظل هذا الوضع المتخم بالأكاذيب لم تعد مهمة الصحفي التقليدية هي نقل الوقائع والأخبار فحسب، بل أصبحت البحث عن الحقيقة، والتأكد منها، وهي مهمة ثقيلة على كثيرين استساغوا النشر السهل والتعاطي الساذج أو الماكر مع المزيف على حساب المُثبت والحقائق.


وقد تنجح صناعة التضليل الإعلامي بكل سهولة على مستويات دولية ووطنية ومحلية – في حال التراخي في مقاومتها وبث الوعي في كيفية مواجهتها – في جعل المقولة التالية المضحكة حقيقية بكل أسف، فنجاح التضليل سيعني: إقناع الناس أن رجلا ًأخرس قال لرجل أطرش أن أعمى شاهد رجلاً مشلولاً يلحق برجل أعرج. وما خفي كان أعظم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى